سورة التوبة - تفسير تيسير التفسير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


براءة: إعذار وإنذار بانقطاع العصمة. فسِيحوا في الأرض: تجوّلوا فيها وتنقلوا. مخزي الكافرين: مذلهم وأذان من الله: إعلام منه تعالى ومن رسوله ببراءتها من المشركين. لم ينقصوكم شيئا: لم يخلّوا في شروط المعاهدة. ولم يظاهروا عليكم: لم يعاونوا احداً عليكم.
لقد دلت تجربة الرسول الكريم واصحابه مع المشركين في جميع انحاء الجزيرة العربية انه هؤلاء لا أمان لهم ولا عهود، ولا يُؤمَن غدرُهم في حالّي القوة والضعف، بل لا يستطيع المسلمون ان يعيشوا على اسس المعاهدات ما داموا على شِركهم. فجاءت هذه السورة تأمر المسلمين بنبذِ عهود المشركين المطلقة، واتمام عهودهم المؤقتة لمن استقام. وهكذا حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى محا الشرك من جزية العرب ودانت كلها للاسلام.
وقد زاد اقبال العرب على الإسم بعد الحجّة التي حجّها أبو بكر سنة تسع للهجرة، وفي هذه الحجة أرسل النبيّ عليّ بن أبي طالب ليلحق بأي بكر، ويتلو على الناس قرآنا. فكان فصلا بين عهدين: عهدٍ كان الإسلام يقوى فيه شيئا فشيئا، لكن مع بقاء الشرك في بعض القبائل، وعهد آخر خلصت فيه الجزيرة كلها للاسلام. والقرآن- الذي تلاه عليّ على الناس، وفَرّق الله به بين هذين العهدين- هو هذه الآيات الكريمة من سورة التوبة.
{بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين}.
هذه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم أيُها المسلمون من المشركين، فيها إنذار بقطع تلك المعاهدات.
{فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين}.
قولوا أيها المسلمون: سِيروا في الأرض وانتم آمنون لا يتعرّضون لكم أحدٌ من المسلمين بقتال مدة أربعة اشهر، تبتدئ من عاشرِ ذي الحجّة من سنة تسع للهجرة (وهو يوم النحر الّذي بُلِّغوا فيه هذه الدعوة)، وتنتهي في العاشر من شهر ربيعٍ الآخِر من سنة عشر. انتقِلوا طوال هذه المدة حيث شئتم، وانتم تفكرون في عاقبة أمركم، ثم تخيَّروا بين الإسلام والاستعداد للقتال، واعلموا انكم لن تُعجزوا الله إذا أصررتم على شِرككم، بل سيسلّط عليكم المؤمنين ويؤيدهم بنصره الذي وعدهم به. والعاقبة للمتقين.
{وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} هذا بلاغ من الله ورسوله إلى الناس كافة، في اجتماعهم يوم النّحر من الحجّ الأكبر، يصرح بالبراءة من عهود المشركين.
{فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله}.
فيا أيها المشركون الناقضونَ للعهدِ: إن تُبتم ورجعتم عن شِرككم بالله، وعن خيانتكم وغدْرِكم، كان ذلك خيراً لكم في الدنيا والآخرة، أما ان بقيتم على ما أنتم عليه، فاعلموا انكم لن تُفلِتوا من سلطان الله ولا من وعده لرسوله وللمؤمنين بالنصر عليكم.
{وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
وبشّر أيها الرسول الكريم جميع الكافرين بعذاب أليم في الآخرة.
{إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ}.
أما من عاهدتم من المشركين، فحافَظوا على عهودكم ولم يُخِلّوا بشيء منها، ولم يُعِينوا عليكم أحداً- فأوفوا لهم عهدهم إلى نهايته واحترِموه {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} الذين يحافظون على عهودهم.
وفي هذه الآية دليلٌ على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهدُ معقودا وتصريحٌ بأن العهدّ المؤقت لا يجوز نقضُه الا بانتهاء وقته، هذا إذا حافظ العدو المعاهد على ذلك العهد، فان نقض شيئا منه اعتُبر ناقضاً كما قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً}.
ورى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر في تلك الحَجَّة في مؤذِّنين بعثَهم يوم النحر يؤذنون بِمِنَى: إن لا يحُجّ بعد العام مُشرِكن ولا يطوفَ بالبيت عُريان، ثم أردف بعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره ان يؤذن ببراءة، عين يتلوها على الناس.


فاذا انسلخ: إذا انقضت وانتهت. الاشهر الحرم: هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.. حرم الله فهي القتال احصروهم: حبسوهم امنعوهم من الخروج. المرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو. استجار: طلب الامان والحماية. أَجره أمنه. مأمنه: مسكنه الذي يأمن فيه إلاَّك جوارا أو قرابة.
بعد تقريرا لحكم ببراءة الله ورسوله من المشركين، مع استثناء الذين لم ينقُصوا المسلمين شيئاً ولم يُظهروا عليهم أحداً- قفى على ذلك بذكر ما يجب ان يفعله المسلمون بعد انقضاء الأجل المضروب والامان الذي أُعطي لهم.
فاذا انقضت الأشهر الاربعة التي حرَّم الله فيها قتال المشركين، فافعلوا كل ما ترونه موافقاً للمصلحة من تدابير الحرب وشئونها.. اقتلوا الناقضين للعهد في كل مكان، وخُذوهم بالشدّة، واضربوا عليهم الحِصار بسدّ الطرق، واقعدوا لم في كل سبيل فإن تابوا عن الكفر، واسملوا والتزموا باحكام الاسلام- فلا سبيل لكم عليم، لدخولهم في دين الله. ان الله تعالى يغفر لهم ما سبق من الشرك والضلال، فهو واسع الرحة بعباده.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله، وان محمداً رسولُ الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا منّي دماءَهم وأموالهم إلا بحق الاسلام، وحِسابُهم على الله».
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}.
وان طلب منك الأمانَ أيها الرسول، أحدٌ من المشركين الذين أُمرتُم بقتالهم ليسمعَ دعوتك ويعلم ما أنزلَ الهُ، فأمِّنْه حتى يسمعَ كلام الله، فان دخل في الإسلام فهو منكم، وإن لم يدخل فأبلِغْه مسكنه الذي يأمن فيه. وهذا الأمر بتأمين المستجدِّ من هؤلاء الناس حتى يسمع كلام الله إنما تبريره أنه جاهل للاسلام، وأمثاله قوم لا يدرون ما الكتاب ولا الايمان.
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ}.
انتهى في الآيات السابقة من تقرير الاحكام النهائية بين المسلمين والمشركين في الجزيرة، فأخذ في الآيات اللاحقة يقرر انه لا ينبغي ان يكون للمشركين عهد عند الله وسوله: كيف يكون لهؤلاء الناقضين للعهود مرارا، عهدٌ محترم؟ لا تأخذوا ايها المسلمون بعهودهم الا لاذين عاهدتموهم منهم عند المسجد الحرام (مثل بني كِنانة وبني ضمَرة) لأنهم لم ينقضوا عهدهم الذي عاهدوا الرسول عليه يوم الحديبية، وهي قريبة من مكة، ولذلك قال تعالى: عند المسجد الحرام. فاستقيموا ايها المسلمون على عهد هؤلاء ما دااموا مستقيمين {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} الذين يخشون نقض العهد، فلا يفعلونه.
{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}.
كيف تحافظون على عهدوهم، وهم قوم إن تمكنوا لم يدّخروا جُهدا فيا لقضاء عليكم، غير مراعين جواراً ولا قرابة ولا عهدا.
ثم بين الله ما تنطوي عليه نواياهم من الضغينة فقال: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}.
انهم يخدعونكم بكلامهم المعسول، وقلوبهم منطوية كراهيتكم، وأكثرُهم خارجون عن الحق ناقضون للعهد، فليس عندهم وفاء لكم ولا ود.


يعود الله تعالى في هذه الآيات لاستنكار مبدأ التعاهد بأسبابه التاريخية والواقعية بعد أن استنكر باسبابه العقيدية والايمانية، ويجمع بين هذه وتلك في هذه الآيات. فيقول عنهم انهم استبدلو بآيات اللهِ عَرَضاً قليلا من حُطام الدنيا، وصدّوا بسبب هذا الشِراء الخسيس أنُفسَهم عن الإسلام ومنعوا الناس عن الدخول فيه {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ألا لقد قَبُح، علمهم هذا، من اشتراء الكفر بالايمان، والضلالة بالهدى، ونكران ما جاء رسول الله به من البينات.
ثم إنهم لا يُضرمون هذا الحقدّ لأشخاصكم فقط، بل يضمرونه لكل مؤمن، ويتّبعون هذا المنكر مع كل مسلم، ولا يراعون فيكم عهداً.
{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وأولئك هُمُ المعتدون}.
من اجل هذا الكفر لايحترمون لمؤمن قرابةً ولا عهدا. ذلك ان سمة العدوان أصلية فيهم، فمن شانهم عدم التقيد بالعهود، بحكم عنادهم وكفرهم وكراهيتهم للايمان. ولا علاج لهؤلاء أبداً الا إجبار على الرجوع عن الكفر، والاعتصام بالإيمان.
ثم بين الله كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
اذا رجع هؤلاء المشركون الذين أُمرتم بقتالهم عن شِركهم، والتزموا أحكام الإسلام باقامة الصلاة وايتاء الزكاء- فهم إخوانكم في الدين، لهم ما لكم، والله يفصّل هذه الأحكام ويبيّنها لمَن يدركُها ويدركُ حِكمتها من الذين يعلمون، وهم المؤمنون.
{وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ}.
وان نكثَ هؤلاء ما أبرمتْه أيمانُهم بالوفاء بالعهد الذي عقدوه معكم، وعابوا دينكم وصدّوا الناس عنه، فقاتِلوهم، انهم أئمة الكفر، لأنهم لا عهدّ لم ولا ذمة، قاتِلوهم رجاءَ ان ينتهوا عن الكفر ونقضِ الأيمان والعهود.
ومع ان هذه النصوص كانت في المشركين، زمن الرسول الكريم، فيه مستمرة مع أئمة الكفر في كل زمان ومكان. خذ اليهود اليوم، إنهم هم المعتدون، تساندهم قوى الغرب المستبدّة الآثمة، وكلهم اعداء الانسانية والاسلام، فعلينا ان نصحو من سابتنا، ونستعدّ، واكبر سلاح لنا هو الايمان بالله وبقضيتنا العادلة واتحادنا.
ثم اعاد الله الكرَّة بإقامة الأدلة على وجوب قتال الناكثين للعهد المعتدين: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟}.
فاتِلوا هؤلاء المشركين لأسباب ثلاثة.
اولا: أنهم نكثوا الأيمان التي حلفوها لتأكيدِ عهدهم الذي عقدوه يوم صُلْح الحديبية.
ثانيا: أنهم همُّوا بإخراج الرسول الكريم من مكة، وأرادوا قتْلَه بأيدي عُصْبة من بطون قريش ليتفرق دمه في القبائل فتتعذر المطالبة به.
ثالثا: أنهم بدأوا بقتال المؤمنين في بدر حين قالوا بعد العلم بنجاة قافلتهم: لا ننصرف حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وكذلك قاتَلوكم في أحُد والخندق وغيرهما.
{أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ}.
بعد هذا كله، أتتركون قتالهم خوفاً وجبناً منكم! ان الله أحقّ ان تخشوا مخالفة امره وأن تخافوه ان كنتم صادقين في إيمانكم.
ثم يحرض الله المؤمنين على القتال بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}.
قاتِلوهم ايها المؤمنون ولا تخافوا، ان الله سوف يعذّبهم على أيديكم، ويذلّهم بالأسر لكم، وسوف ينصركم عليهم حتى لا تقوم لهم قائمة بعد هذه، ويَشْفي صدرو أناس منكم نالوا من أذاهم قدرا كبيرا لم تكونا تستطيعون دفعه... انه سوف يشفي تلك النفوس من غيظها المكظوم، بانتصار الحق كاملا، وهزيمة الباطل.
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}.
بانتصاركم عليهم سيملأ الله قلوب المؤمنين فرحا، ويذهب عنهم الغيظ الذي كان قد وَقَر فيها من غدر المشركين وظلُمهم.
{وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
ويقبل الله توبة من يشاء منهم، وهو العليم بشؤون عباده، الحكيم فيما يشرّع لهم من الاحكام.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8